فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي: أخلاط يراها في النوم: {بَلِ افْتَرَاهُ} أي: اختلقه: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي: ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولونَ} أي: مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي: حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إلى طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي: لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات. أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. وقدمنا أن رقيَّ النوع البشري في العهد النبويّ، اقتضى أن تكون الآية عقلية، لا كونية. فتذكر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}.
الظاهر أن الاضراب في قوله هنا {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}..إلخ، إضراب انتقالي لا إبطالي، لأنهم قالوا ذلك كله، وقال بعض العلماء: كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول، بل تارة يقولون هو ساحر، وتارة شاعر، وهكذا، لأن المبطل لا يثبت على قول واحد. وقال بعض أهل العلم: كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفة: كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91] وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه: كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى: {وما هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 41-47]، وقوله تعالى: {وما عَلَّمْنَاهُ الشعر وما يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} [يس: 69-70]، وقوله في رد دعواهم إنه افتراه: {وما كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ولَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 37-38]، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] إلى غير ذلك من الآيات، وكقوله في رد دعواهم إنه كاهن أو مجنون: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]، وقوله تعالى: {وما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69-70] إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النَّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها كما قال الشاعر:
أحاديث طسم أو سراب بفدفد ** ترقوق للساري وأضغاث حالم

وعن اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل.
قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقتراحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله؛ نحو ناقة صالح، وعصى موسى، وريح سليمان، وإحياء عيسى للأموات وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك. وإيضاح وجه التشبيه في قوله: {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} هو أنه في معنى: كما أتى الأولون بالآيات. لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات. فقولك أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزة. وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا وآنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل. كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة. كقلوه تعالى: {وما مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59] الآية، وكقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وما يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وأشار إلى ذلك هنا في قوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6] يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا، لم يؤمنوا بل تمادوا فأهلكهم الله وأنتم أشد منهم عُتُوًا وعِنادًا. فلو جاءكم ما اقترحتم، ما آمنتم، فهلكتم كما هلكوا. وقال تعالى: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96-97] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ، وذلك في قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50-51] الآية. وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133]، وقوله: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا} [الأنبياء: 7] إلى قوله: {وما كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السماء وَالأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}.
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علِم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر، فالتعريف في {القول} للاستغراق، وبذلك كان هذا تذييلًا، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله: {وهو السميع العليم}.
وقرأ الجمهور: {قل} بصيغة الأمر، وقرأ حمزة والكسائي، وحفص، وخلف {قال} بصيغة الماضي، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة، أي قال الرسول لهم، حكى الله ما قاله الرسول لهم، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور {قل ربي يعلم القول} لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.
وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس.
وأما قوله في سورة [الفرقان: 6] {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار، وكان قول الذين كفروا: {إن هذا إلا إفك افتراه} [الفرقان: 4] صادرًا منهم تارة جهرًا وتارة سرًّا فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم.
ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولونَ (5)}.
{بل} الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3] إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين، وهو زعمهم أنّ ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها، فضمير {قالوا} لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.
و{بل} الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن.
والمعنى: بل افتراه واختلقه من غير أحلام، أي هو كلام مكذوب.
ثم انتقلوا فقالوا {هو شاعر} أي كلامه شعر، فحرف بل الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشىء عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن.
وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل: الباطل لَجْلَج، أي ملتبس متردّد فيه.
ويجوز أن تكون بل الثانية والثالثة مثل بل الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم.
والتقدير: بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالًا.
والأضغاث: جمع ضغث بكسر الضاد، وهو الحزمة من أعواد أو عُشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقًا كما في سورة يوسف (44) {قالوا أضغاث أحلام} أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.
وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.
ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاءُ بأنها سَحْر أروجَ في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة.
وقديمًا قال آل فرعون في معجزات موسى: إنها سحر، بخلاف آية إعجاز القرآن.
ودخلت لام الأمر على فعل الغايب لمعنى إبلاغ الأمر إليه، أي فقولوا له: ائتنا بآية، والتشبيه في قوله: {كما أرسل الأولون} في موضع الحال من ضمير {يأتنا} أي حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب.
قال النابغة:
وقد خِفت حتى ما تزيد مخافتي ** على وَعِل من ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وَعِل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون، أي به.
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}.
استئناف ابتدائي جوابًا على قولهم {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتُم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم.
وهذا كقوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} في سورة [الإسراء: 59].
وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها. وما نافية.
و من في قوله تعالى: {من قرية} مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف ما.
ومتعلق {آمنت} محذوف دل عليه السياق، أي ما آمنت بالآيات قرية.
وجملة {أهلَكِناها} صفة لـ: {قرية} وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضًا يترقبون الإهلاك.
وذُكرت القرية هنا مرادًا بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم، فلذلك قيل {أهلَكِناها} دون أهلَكِناهم كما في سورة [الكهف: 59] {وتلك القرى أهلَكِناهم} وفرعت جملة {أفهم يؤمنون} على جملة {ما آمنت قبلهم من قرية} مقترنة باستفهام الإنكار، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالًا في قولهم {كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5] وهذا أخذ لهم بلازم قولهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السماء وَالأرض}.
كأن سائلًا قال: من أين لك يا محمد بكل هذا وقد أسرّه القوم؟ {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السماء والأرض} [الأنبياء: 4] فلا تَخْفى عليه خافية {وَهُوَ السميع العليم} [الأنبياء: 4] السميع لما يُقال ويُسر العليم بما يُفعل، فالأحداث أقوال وأفعال.
ومما قالوه أيضًا: {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ}. بَلْ تعني أنهم تمادَوْا، ولم يكتفو بما قالوا، بل قالوا أيضًا {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [الأنبياء: 5] وأضغاث: جمع ضِغْث، وهو الحزمة من الحشيش مختلفة الأشكال، كما جاء في قصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] أي حزمة من أعواد الحشيش.
ووردْت أيضًا في رُؤْيا عزيز مصر: {قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].
وقوله: {بَلِ افتراه} [الأنبياء: 5] أي تمادَوْا فقالوا: تعمد كذبه واختلافه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] إذن: أقوالهم واتهاماتهم لرسول الله متضاربة في ماهية ما هو؟ وهذا دليل تخبطهم، فمرة ينكورن أنه من البشر، ومرة يقولون: ساحر، ومرة يقولون: مفتر، والآن يقولون: شاعر!!
وقد سبق أنْ فنَّدنا كل هذه الاتهامات وقلنا: إنها تحمل في طياتها دليل كذبهم وافترائهم على رسول الله.
ثم يقولون: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] كأن آية القرآن ما أقنعتْهم، فلم يكتفُوا بها، ويطلبون آية أخرى مثل التي جاء بها السابقون، والقرآن يردّ عليهم في هذه المسألة: لو أنهم سيؤمنون إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لأنزلناهم عليهم، إنما السوابق تؤكد أنهم لنْ تؤمنوا مهما جاءتهم من الآيات، وهذا من أسباب العذاب.
وقد أوضح الحق سبحانه أنه لن يُعذَّبهم ما دام فيهم رسول الله؛ لذلك لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا من الآيات؛ لأن الله تعالى لا يُخلف وعْدَه، فإنْ جاءتهم الآية فلم يؤمنوا بها لابد أنْ يُنزِل بهم العذاب؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ}.
إذن: هذه التجربة مَرَّت مع غيرهم من الأمم السابقة، وهم كأمثالهم من السابقين لو أنزلنا عليهم الآية ما آمنوا، كما لم يؤمن سابقوهم {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {قُلْ رَبِّي}: قرأ الأخَوان وحفصٌ {قال} على لفظِ الخبرِ. والضميرُ للرسولِ عليه السلام. والباقون {قُلْ} على الأمرِ له.
قوله: {فِي السماء} في أوجه، أحدها: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من القول. والثاني: أنه حالٌ من فاعل {يعلمُ}. وضَعَّفَه أبو البقاء، وينبغي أَنْ يمتنعَ. والثالث: أنه متعلقٌ بـ: {يَعْلَمُ}، وهو قريبٌ مِمَا قبله. وحَذْفُ متعلَّق السميع العليم للعلمِ به.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولونَ (5)}.
قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أضغاثُ. والجملةُ نصبٌ بالقول.
قوله: {كَمَا أُرْسِلَ} يجوزُ في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أن تكونَ في محلِّ جرٍّ نعتًا لـ: {آيةٍ} أي: بآية مثلِ آيةِ إرسالِ الأولين. فـ: ما مصدريةٌ. والثاني: أن تكونَ نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ أي: إتيانا مثلَ إرسال الأولين.
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}.
قوله: {أَهْلَكِناهَا} و{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}: قد تقدَّمَ نظيرُه. اهـ.